الأربعاء، 11 سبتمبر 2013

معركة كرري النصر المعنوي رغم الهزيمة المادية -يوسف حسن



وفي_كرري_تذكرة_لمن_ساروا_على_الدرب

#معركة_كرري_النصر_المعنوي_رغم_الهزيمة_المادية

==========================

#يوسف_حسن

كانت معركة البطولة الحقة والإقدام الأسطوري ، تضحية بالنفس فداء للوطن ودفاعا عن الدعوة وبصورة قلب الهزيمة المادية الظاهرة نصراً باقياً يفخر به الأحفاد ويعترف به الأعداء قال الأحفاد في حدائهم برجال كرري :

كرري تحدث عن رجال كالأسود الضارية

خاضوا اللهيب وشتتوا كتل الغزاة الباغية

وقال الغزاة عن رجال كرري لأشاوس ما هزمناهم ولكنا حصدناهم خلف الأنصار بكرري شاهداً باقياً وهرما شامخا ما يزال السودانيين يستمدون منه زادا روحيا تجدده فيهم معركة كرري حتى لو طافت بالخيال وما يزال أسم كرري هو خط الدفاع الأول الذي يواجه الأعداء فما أسباب ذلك الأقدام
وما سر ذلك التدافع الذي حول النصر هزيمة والهزيمة نصرا .

للإجابة على هذا السؤال نرجع إلى منبع الدعوة وداعيتها .
كما تعلمون فإن محمد أحمد بن عبد الله المهدي فيما بعد – كان أميل أخوته إلى العلم حتى أنصرف إليه وتنقل في طلبه من مسجد إلى مسجد ومن شيخ إلى شيخ يحفظ القرآن ويجود ويدرس تفاسيره ويعب من علوم الدين ويدرس المجتمع ويتعرف على عباده وبلاده .

وفي أثناء ذلك أشتهر بالتزامه الصارم بمقتضى كل نص يمر عليه . مثلما كان الصحابة الأبرار ، لا يتجاوزون البضعة من الآيات حتى يجودوا لفظها ويفهموا معناها فيحلوا حلالها يحرموا حرامها في الحال والتو فلما قيل لهم " فهل أنت منتهون " بلغة السؤال – أجابوا انتهينا وأسالوا الخمر انهارا . هكذا جاءت استجابتهم بعد تدرج أحكم الحاكمين في تحريمها.
إن من صرامة التزام المهدي بمقتضى النص أنه أشتهر بعدم وضع الطعم على الصنارة حتى لا يغش أمة السمك التزاما بقول الرسول صلى الله عليه وسلم " من غشنا ليس منا " وكان ذلك منه في مرحلة طلب العلم وتكرر في تجاربه لكسب الرزق حين سارع إلى الإقلاع عن تجارة الذرة لما حامت حولها شبهة احتكار القوت الضروري لعامة الناس كما أمتنع عن بيع الحطب حتى لا يكون طرفا في صناعة الخمر .

كان مثله الأعلى هو المصطفى صلى الله عليه وسلم يقتفي أثره في خاصة أمره وعامته وقال في ذلك وأمرنا هذا أمر أتباع لا ابتداع، ولخص دعوته في أنه عبد مأمور بأحياء الكتاب والسنة المقبورين حتى يستقيما. ولما كان يعلم أن الجهاد الأكبر هو جهاد النفس فقد حملها على مشاق طلب العلم وألزمها حدود الحلال والمباح مع زهد وإقلال فيهما والتزم في نفسه ثم أمر أتباعه على إتباع مقتضيات العلم وحقائقه ووجه بترويض النفس بقلة الطعام والشراب والصبر والذل والانكسار لله دون سواء .

وإمعانا منه في تعقب عيوب النفس وإصراراً على تنقيتها من الأدران جعل معظم بيعته على مجاهدة النفس حيث يقول نص البيعة " بايعنا الله ورسوله وبايعناك على ألا نشرك بالله شيئا ولا نعصيك في معروف ولا نسرق ولا نزني ولا نأتي ببهتان نفتريه وأن نقرأ ما تيسر من القرآن والراتب ونزهد في الدنيا ولا نفر من الجهاد ".

ولقد بقي أثر هذه التربية ساريا بل متحكما في الأنصار منذ الأجداد الأبكار إلى الأحفاد المعاصرين الآن ولذلك فشل أعداؤهم مع حرصهم على إثبات تهمة بنجاسة من هذه النجاسات المعنوية والمادية.فالمتطهر الملتزم بتلك البيعة هو الأنصاري وأولئك هم أبناء الروح كما سماهم الإمام عبد الرحمن المهدي أن بيعة الإمام المهدي لم تتضمن عهداً بالولاء له شخصيا أو بالدفاع عن حكومته بل ركز بالتفصيل على التعهد بتنقية النفس وترقيتها فحتى بعد أن بدأ الجهاد وفي وقت كان فيه محتاجا للعدد من الجند عند هجرته من الجزيرة أبا مهد الدعوة إلى جبل قدير قال لأصحابه ( من فيه واحدة من ثلاثة : الحسد والكبر أي العجب وترك الصلاة فليعالجها ) قال لهم ذلك في أول الميسر فلما أشرف على المعسكر ذكرهم بتلك النواقص الثلاث وقال لهم " من ما تزال فيه واحدة منها فليفارقنا إذ لا نصرة لنا به " هكذا فإن الاشتراك في الحرب عند الإمام المهدي لابد أن يقوم على اختيار من الجندي والقائد وليس بالإكراه كما يفعل الآن الذين يجندون الشباب والطلاب قسراً ويرمون بهم إلى محرقة الحرب ثم يطاردونهم بالبنادق إذا حاولوا الفرار .
إن إصرار الإمام المهدي على الالتزام بفرائض الأخلاق لا تبدله ضغوط الحاجة ولا ظروف الحرب. فها هو يحرر ويوزع منشوراً على الأنصار أثناء إحدى المعارك ينهاهم فيه عن الفلول منبها إلى أن الجهاد ليس قتلاً عشوائياً ولا تشفيا وانتقاما أو استعلاء في الأرض بل لا قطع لشجرة ولا قتل لطفل أو امرأة أو شيخ مسن أو أي مستأمن أو مسالم إذ "لا تزر وازرة وزر أخرى " .

وبما يرى البعض أن المهدية كانت مجرد ثورة وطنية ضد ظلم أجنبي وأن الإمام المهدي أعطاه البعد الديني ليكسبها قداسة وقوة كما قال الدكتور الترابي لا . هذا ما لم يفعله الإمام المهدي بل لم يقبله ولكن الدكتور قاله وفعله.
ومن الغريب – إن م. هولت صاحب كتاب المهدية في السودان أعتبر الحافز الروحي الكائن في المهدية والمتمثل في كاريزمية الإمام المهدي هو سر قوتها. وقد ذكر ثلاثة عناصر قاومت الحكم التركي في السودان وقال إن أولها وأهمها وبؤرتها هو أهل الصلاح والزهد الذين طعموا في إصلاح جذري في النظم والعادات - فهل أصاب هولت فيما أخطأ فيه الترابي مع مظنة راجحة بمعرفته هذا بالنصوص الصحيحة التي وردت في الأمر ؟.

لقد كان الصلاح أمنية عامة والصالحون محل الاحترام والتبجيل بدرجة خيف معها على سلامة عقيدة نفسها. وتوزع المسلمون على الطرق مثلما توزعوا على المذاهب وضعف الالتزام الإسلامي عند العامة حتى تهاون البعض في الصلاة ذاتها.
ولكن بقية الفطرة فيهم سليمة ومع علو مكانة الصالحين وشيوع إشاراتهم وأحاديثهم عن عقيدة ظهور المهدي وشيوع تنبؤاتهم عن قرب زمانه تعددت عناصر نجاح الثورة فكان العنصر الحاسم فيها ظهور الإمام الصالح القدوة في الاقتداء بالمصطفى صلى الله عليه وسلم - وتناقل الناس القصص والأخبار عن الشيخ محمد أحمد بن عبد الله وعن علمه وورعه وتُقاه وصلاحه فاتجهت بذلك الآذان لاستماع كل كلمة عنه ثم تقاطر المريدون عليه وبعد إعلان الدعوة وإشهارها أرهفه اذان الأنصار لما يقول وسهل الفهم على العقول . واستجابة الجوارح وتلذذت القلوب بالطاعة .

وصارت مفارقة الدنيا ونعيمها لا تشكل حاجزا أمام النفوس التواقة لأحدى الحُسنيين - النصر أو الشهادة وفي ذاك المناخ غرس القائد الإمام أسس العقيدة فتوظف الموقف مع الكاريزمية مع العوامل الذاتية كأسباب لما قدر الله أذلا وأراد .
وكان أول أساس هو الدعوة إلى توحيد المعبود في العبادة لينقي بذلك عقيدة المسلم من شوائب الشرك وشبهاته .
ومعها الدعوة إلى الاجتماع مباشرة حول الكتاب والسنة إذ أجاب الإمام من سأله عن مذهبه وطريقته قائلا : مذهبنا الكتاب والسنة وطريقتنا لا اله إلا الله محمد رسول الله .
ثانياً : الإتحاد حول قائد يجتمع فيه الشرطان التقلد بقلائد الدين وميل قلوب المسلمين ، حرصا على أن يكون القائد قدوة في الالتزام ومع ذلك يرضى بشورى المسلمين – رفضا لفرض القيادة وإكراه الناس .
ثالثاً : الالتزام بصريح القرآن وصحيح الدلالة من السنة والاجتهاد فيما سوى ذلك على قاعدة: لكل وقت ومقام حال ولكل زمان واوان رجال .
رابعاً : الجهاد ما قامت أسبابه وفق قواعده وأحكامه مع ملاحظة أن الجهاد للدفاع وليس العدوان . وأن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة - والدليل العملي على ذلك أنه لم يبدأ الحكام بقتال حتى بدءوه.
وأنه كان دائماً ينبه الناس إلى أن المشاركة في الجهاد بالرضا.
وان النصر من عند الله ولابد فيه من صدق النية " كان صدقت نيتكم القشة تقضي غرضكم “.
خامساً : السعي لإصلاح المجتمع للاحتكام إلى الدين في العادات والمعاملات ، بإباحة ما أباحه الشرع أو سكت عنه والانتهاء عن ما نهى عنه .
تلك هي الكلية التي تخرج فيها أبطال كرري وتلك هي الأسباب التي دفعتهم إلى ذلك التدافع الأسطوري نحو نار كتشنر .
ولذلك سقطت الدولة ولكن بقيت الدعوة مشتعلة الجذوة متجددة الشباب . تقبل الله شهداء كرري ووفقنا للإقتداء بهم على سكة من سكته سكة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
" أن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد "
"إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم "


مكتب المفكر الإسلامي الشيخ يوسف حسن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق